أيها الصرح الحضاري العظيم، أيها الإنجاز التاريخي، أيها الصديق الطيب واللذيذ، أيها السند والملاذ الأخير، أيها الفلافل، أنا أعشقك، أحبك، أحترمك، وأقف صغيراً أمامك، فما هي إنجازاتي أمام إنجازاتك العظيمة، وما قيمة قصائدي أمام أبواب الفرح والفرج التي تفتحها كل يوم للدراويش والجائعين المفلسين، من أنا أصلاً لأقارن نفسي بعظمتك وكرمك وتضحياتك اليومية كرمال عيون وبطون الناس.
تبدأ رحلة الفلافل بشقيه الأصلي والمغشوش من الأرض، حيث تتكون حبة الحمص الخضراء وتبتسم برفق للأطفال الذين يسرقونها من البستان كي يأكلوها وهي ما زالت في ميعة صباها خضراء ولذيذة، وبعد أن تنجو حبات الحمص الخضراء من براثن الأطفال تمضي باتجاه العمر الطويل وتتيبس، وتأتي يد الإنسان وكيل الفلافل في الأرض بائع الفلافل لتنقعها مع أخواتها الحمصات اليابسات ثم تسلقها وتطحنها فتذوق حبات الحمص ـ الأب الشرعي للفلافل ـ ويلات العذاب على النيران المتأججة، ثم تصرخ ألماً وهي تطحن في الآلات المعدنية، ولكنها تنزعج إذا رأت بائعاً غشاشاً يطحن معها فتات الخبز اليابس وتقول "أنا متوفرة ورخيصة فلماذا الغش" .. وبعد أن تجهز التوابل وتختلط مع الأساس الحمصي ـ من الحمص وليس من مدينة حمص العدية ـ تبدأ رحلة العذاب الجديدة عبر وضعها كل جماعة في قالب مقدس يدعى بالقرص، ويرمى القرص مع باقي الأقراص في مقلاة كبيرة وتتقلى وسط أمواج الزيت الذي تم قلي الأجداد الفلافلية فيه من قبل، فمعظم البائعين يستخدمون نفس الزيت لقلي أجيال وأجيال من الفلافل المعطاءة، وبعد أن يتم تدمير كل الخلايا في قرص الفلافل يصبح جاهزاً للأكل، وأي أكل ؟!
فآكل الفلافل هو جائع حصراً، لأنه كسر على أنفه بصلة ووقف أمام بائع الفلافل، لأن كل أبناء شعبنا الحباب يعتقدون أنهم أكبر من الفلافل وأن مكانهم الطبيعي هو المطاعم الفخمة أو سيخ الشاورما على أقل تقدير، فترى آكل الفلافل إذا ما تم القبض عليه بالجندي المجهول أو بالجرم المشهود كما درج القول وكما حُرّف فإنه يقول لك وهو يأكل طبعاً ودهادير الفلافل تسبقه من فمه إلى وجهك " والله اشتهيتها شهوة .. يحرق حريشه هالبياع .. شهّاني عالفلافل !! "، ثم يكمل أكله بشراهة وهو متعجب كيف أنه قرر أن يأكل الفلافل، هذا التعجب يمارسه آكل الفلافل كل يوم مثل الحمصي الذي أكل ستين كف على غفلة، والحمصي هنا نسبة إلى الحمص أيضاً وليس نسبة إلى السوري آكل الفلافل أيضاً الذي ينتسب إلى مدينة في وسط سورية اسمها حمص.
عاش الفلافل صديقي، يسقط الشاورميون محدثو النعمة بشقيهم اللحمة والجاج، يسقط سيخ الشاورما الغامض الذي لا نعرف قرعة أبوه من وين، يعيش الفلافل بشقيه الأصلي ـ حمص ـ والمغشوش ـ خبز يابس ـ وفي الحالتين فنحن نأكل المعلوم ولا ندخل في دوامة الغموض الشاورمي الذي لا يشبهه شيء في غموضه سوى الشعر الحديث.
إلى الأمام أيها الفلافل فكلهم ماضون وأنت الباقي الوحيد لأنك أصلي وطيب وابن حلال وابن البلد ومزروع ومقطوف ومنقوع ومهروس ومطحون ومقلي ومعلّم على الصدعات قلبك.